فصل: بصيرة في قدر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بصيرة في قدر:

هو قادر ومقتدر: ذو قُدرة ومقْدِرة.
وأقدره الله عليه.
وقادرته: قاويته.
وهم قدْر مائة، وقدر مائة، ومقدارها: مبلغها.
والأُمور تجرى بقدر الله ومقدارِه وتقديره وأقداره ومقاديره.
وقدرت الشيء أقْدُرُه وأقدِره، وقدّرته.
ولا يُقادر قدْره: لا يطاق.
ورجل مقتدر الطُول: ربْعة.
وصانع مقتدِر: رفيق بالعمل، قال:
لها جبْهة كسراةِ المِجنِّـ ** ـم حذّفه الصّانعُ المُقْتدِرْ

وقد ورد القدر وما يتصرّف منه لمعان مختلفة:
الأول: بمعنى الشرف والعظمة: {إِنّا أنزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}، وقيل معناه: ليلة قيّضتها لأُمور مخصوصة.
الثّانى: بمعنى ضِيق المكان والمعيشة: {يبْسُطُ الرِّزْق لِمنْ يشاءُ ويقدِرُ}، {ومن قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ} أي ضُيِّق، {فظنّ أن لّن نّقْدِر عليْهِ} أي لن نضيِّق عليه.
الثالث: بمعنى التزيين وتحسين الصّورة: {فقدرْنا فنِعْم الْقادِرُون} صوّرنا فنعم المصوِّرون: {والّذِي قدّر فهدى}، أي خلق فصوّر.
الرابع: بمعنى الجعْل والصُّنع: {وقدّرهُ منازِل}، أي جعل له منازل {والْقمر قدّرْناهُ منازِل}، {فقدّرهُ تقْدِيرا}، {وقدّر فِيهآ أقْواتها}.
الخامس: بمعنى العلم والحكمة: {والله يُقدِّرُ الليْل والنّهار} أي يعلم.
السّادس: بمعنى القدرة والقوّة: {أيحْسبُ أن لّن يقْدِر عليْهِ أحدٌ} أي يقْوى، {وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ}، {قُلْ هُو الْقادِرُ}.
ولها نظائر.
وتقدير الله تعالى الأُمور على نوعين: أحدهما بالحكم منه أن يكون كذا أولا يكون كذا، إِمّا وجوبا وإِمّا إِمكانا، وعلى ذلك قوله: {قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا}.
والثانى: بإِعطاء القدرة عليه.
وقوله: {فقدرْنا فنِعْم الْقادِرُون} تنبيه أن كل ما حكم به فهو محمود في حكمه، أو يكون مثل قوله: {قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا}، وقرئ {فقدّرْنا} مشدّدة، وذلك منه أو من إِعطاءِ القدرة.
وقوله: {نحْنُ قدّرْنا بيْنكُمُ الْموْت} تنبيه أن ذلك فيه حكمة من حيث إِنه هو المقدّر، وتنبيه أن الأمر ليس كما زعم المجوس: أن الله يخلق وإِبليس يقتل.
وقوله: {وكان أمْرُ الله قدرا مّقْدُورا} فـ {قدرا} إِشارة إِلى ما سبق به القضاءُ والكتابة في اللوح المحفوظ، والمشار إِليه بقوله عليه الصلاة والسلام: «فرغ ربّكم من الخلق والخُلُق والأجل والرزق»، (ومقدورا) إِشارة إِلى ما يحدث حالا فحالا، وهو المشار إِليه بقوله: {كُلّ يوْمٍ هُو فِي شأْنٍ}، وعلى ذلك قوله: {وما نُنزِّلُهُ إِلاّ بِقدرٍ مّعْلُومٍ}.
وقوله: {على الْمُوسِعِ قدرُهُ وعلى الْمُقْتِرِ قدرُهُ} أضى ما يليق بحاله مقدورا عليه.
وقوله: {والّذِي قدّر فهدى}، أي أعطى كلّ شيء ما فيه مصلحة، وهداه لما فيه خلاص، إِمّا بالتسخير وإِمّا بالتعليم؛ كما قال: {أعْطى كُلّ شيءٍ خلْقهُ ثُمّ هدى}.
والتقدير من الإِنسان على وجهين: أحدهما: التفكّر في الأمر بحسب نظر العقل، وبناءُ الأمر عليه، وذلك محمود.
والثّانى: أن يكون بحسب التمنىِّ والشهوة، وذلك مذموم، كقوله: {فكّر وقدّر فقُتِل كيْف قدّر}.
وتستعار القُدرة والمقدور للحال والسّعة والمال.
والقدر: وقت الشيءِ المقدّرُ له، والمكان المقدّر له.
وقوله: {فسالتْ أوْدِيةٌ بِقدرِها} أي بقدر المكان المقدّر لأن يسعها؛ وقرئ {بِقدْرِها} أي تقديرها.
وقوله: {وغدوْاْ على حرْدٍ قادِرِين}، أي معيّنين لوقت قدّروه.
وكذلك قوله: {فالْتقى الماءُ على أمْرٍ قدْ قُدِر}.
وقدرت عليه الشيء وصفْته، وقوله: {وما قدرُواْ الله حقّ قدْرِهِ} أي ما عرفوا كنهه، تنبيها أنّه كيف يمكنهم أن يدركوا كنهه وهذا وصفه، وهو قوله: {والأرْضُ جمِيعا قبْضتُهُ يوْم الْقِيامةِ}.
وقوله: {وقدِّرْ فِي السّرْدِ} أي أحكِمه.
ومقدار الشيءِ: المقدّر له وبه وقتا كان أو زمانا أو غيره.
وقوله: {ألاّ يقْدِرُون على شيْءٍ مِّن فضْلِ الله} يعجزون عن تحصيل شيء منه.
والقدير: هو الفاعل لما يشاءُ على قدر ما تقتضى الحكمة، لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه، ولذلك لا يصحّ أن يوصف به إِلا الله تعالى.
والمقتدر يقاربه إِلاّ أنّه قد يوصف به البشر، ويكون معناه المتكلّف والمكتسب للقدرة.
ولا أحد يوصف بالقدرة من وجه إِلاّ ويصحّ أن يوصف بالعجز من وجه، غير الله تعالى، فهو الذي ينت في عنه العجزُ من كلّ وجه تعالى شأْنه. اهـ.

.تفسير الآيات (8- 11):

قوله تعالى: {وكأيِّنْ مِنْ قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربِّها ورُسُلِهِ فحاسبْناها حِسابا شدِيدا وعذّبْناها عذابا نُكْرا (8) فذاقتْ وبال أمْرِها وكان عاقِبةُ أمْرِها خُسْرا (9) أعدّ الله لهُمْ عذابا شدِيدا فاتّقُوا الله يا أُولِي الْألْبابِ الّذِين آمنُوا قدْ أنْزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا (10) رسُولا يتْلُو عليْكُمْ آياتِ الله مُبيِّناتٍ لِيُخْرِج الّذِين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ مِن الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ ومنْ يُؤْمِنْ بِالله ويعْملْ صالِحا يُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِنْ تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها أبدا قدْ أحْسن الله لهُ رِزْقا (11)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الأمر قد بلغ النهاية في الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع، فلم يبق إلا التهديد لمن عصى بما شوهد من المثلات وبالغ العقوبات، فإن من الناس البليد الذي لا يتعظ بما يرى، وكان التقدير: فكأي من ناس كانوا في غاية الضيق فأطاعوا أوامرنا فجعلناهم في غاية السعة بل جعلناهم ملوكا، عطف عليه تزهيدا في الرفاهية بأنها تطغى في الأغلب، وتهديدا لأهل المعاصي قوله مفيدا لكثرة القرى الخارجة عن الحد: {وكأين من قرية} أي مدينة كبيرة جامعة، عبر عن أهلها بها مبالغة {عتت} أي استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عنادا {عن أمر ربها} أي الذي أحسن إليها ولا محسن إليها غيره بكثرة الرزق وطيب العيش واللطف في التربية والرحمة بعد الإيجاد والملك {ورسله} فلم يقبل منهم ما جاؤوها به عن الله، فإن طاعتهم من طاعة الله.
ولما كانت محاسبة مثل هؤلاء للإهلاك لأن الحساب هو ذكر الأعمال والمجازاة عليها بما يحق لكل منها، قال ملتفتا إلى مقام التكلم في مظهر العظمة: {فحاسبناها} أي فتسبب عن عدم شكرهم للإحسان أن أحصينا أعمالها.
ولما كان ذلك على وجه المناقشة على النقير والقطمير بالمجازاة على كل فعل بما يليق به قال: {حسابا شديدا} بمعناه المطابقي من ذكر الأعمال كلها والمجازاة عليها، وهذا هو المناقشة وهي أن العامل إذا أثر أثرا بعمله هو كالنقش في الجامد أثر المجازي له فيه أثرا بحسب عمله على سبيل الاستقصاء، وأما الحساب اليسير فهو عرض الأعمال فقط من غير جزاء على قبيحها فهو دلالة تضمن، وإنما شدد على هذه القرية لأن إعراضها كان كذلك بما نبه عليه تسميته عتوا {وعذبناها} أي في الدنيا جزاء على ما أحصيناه من ذنوبها {عذابا نكرا} أي شديد النكارة لأن العقل يحير في أمره لأنه لم ير مثله ولا قريبا منه ليعتبره به، وأزال ذكر الكثرة شبهة أن يكون الإهلاك وقع اتفاقا في وقت من الأوقات {فذاقت} بسبب ذلك بعد ما كان لها من الكثرة والقوة {وبال} أي وخامة وعقوبة وشدة وثقل وفساد {أمرها} أي في العتو وجميع ما كانت تأتمر فيه، مثله بالمرعى الوخيم الذي يمرض ويهلك.
ولما كان كل مقهور إنما يسلي نفسه بانتظار الفرج ورجاء العاقبة، أيأس من ذلك مذكرا للفعل إشارة إلى الشدة بقوله: {وكان عاقبة} أي آخر ومنتهى وعقيب {أمرها} أي في جميع عملها الذي كانت فيه {خسرا} أي نفس الخسر في الدارين، فكلما امتد الأمر وجدوه أمامهم فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد، ومن أضاع حق الله لا يطاع في حظ نفسه، ومن احترق بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على مقاساة عقوبة الله تعالى، ثم فسر الخسر أو استأنف الجواب لمن يقول: هل لها غير هذا في هذه الدار، بقوله: {أعد الله} أي الملك الأعظم {لهم} بعد الموت وبعد البعث {عذابا شديدا}.
ولما تمت الأحكام ودلائلها، وأحكمت الآيات وفواصلها، والتهديدات وغوائلها، كانت فذلكتها وثمرة سياقها وموعظتها ما تسبب عن ذلك من قوله تعالى تنبيها على ما يحيي الحياة الطيبة وينجي في الدارين: {فاتقوا الله} أي الذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ولما كان في تخليص المواعظ من الأحكام واستثمارها من فواصل هذا الكلام أمر عظيم هو من الرقة بمكان لا يبصره إلا ذوو الأفهام قال تعالى: {يا أولي الألباب} أي العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن {الذين آمنوا} أي خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة، ثم علل هذا الأمر بما أزال العذر فقال تنبيها على ما من علينا به من المراسلة فإن مراسلات فإن مراسلات الأكابر فخر فكيف بمراسلات الملوك فكيف بمراسلة ملك الملوك حثا بذلك على شكره: {قد أنزل الله} أي الذي له صفات الكمال {إليكم} خاصة {ذكرا} أي كاملا مذكورا فيه غاية الشرف لكل من يقبله بل تشرفت الأرض كلها بنزوله ورفع عنها العذاب وعمها النور والصواب لأن فيه تبيان كل شيء، فمن استضاء بنوره اهتدى، ومن لجأ إلى برد أفنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم صورة سورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره لأنه خلقه لا قول له ولا فعل إلا به، فكان كأنه هو، أبدل منه قوله: {رسولا} على أن الأمر فيه غي عن تأويل، فإن الذكر بكسر الذال في اللغة كما في القاموس من الرجال القوي الشجاع الأبي، ثم بين كونه ذكرا بقوله: {يتلوا} أي يتابع أن يقص {عليكم آيات الله} أي دلائل الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام الظاهر جدا حال كونها {مبينات} أي لا لبس فيها بوجه.
ولما تبين أن الذكر والرسول صارا شيئا واحدا، وعلم ما في هذه المراسلة من الشرف، أتبع ذلك بيان شرف آخر ببيان ثمرة إنزاله فقال: {ليخرج الذين آمنوا} أي أقروا بالشهادتين {وعملوا} تصيدقا لما قالوه بألسنتهم وتحقيقا لأنه من قلوبهم {الصالحات} من الأعمال {من الظلمات} أي النفسانية والأخلاق الرذيلة المؤدية إلى ظلمة الجوارح بعملها الظلم وانتشارها في السبل الشيطانية {إلى النور} الروحاني العقيلي الخالص الذي لا دنس فيه بسلوك صراط الله الذي هو واحد لا شتات فيه وبين لا لبس فيه {وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} [الأنعام: 153] كما بادروا إلى إخراج أنفسهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن فساد الأعمال الصالحة إلى سداد الأعمال الصالحة، وذلك بأن يصيرهم متخلقين بالقرآن ليكونوا مظهرا له في حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم فيكونوا ذكرا.
ولما كان التقدير: فمن آمن بالله وعمل صالحا شاهد بركات ذلك في نفسه عاجلا، عطف عليه بيانا لسعادة الآجلة قوله تعالى: {ومن يؤمن بالله} أي يجدد في كل وقت على الدوام الإيمان بالملك الأعلى بأن لا يزال في ترق في معارج معارفه {ويعمل} على التجديد المستمر {صالحا} لله وفي الله فله دوام النعماء، وهو معنى إدخاله الجنة، ولما كان قد تقدم قريبا في آية التقوى أنه يكفر عنه سيئاته، قال شارحا لقوله: {ويعظم له أجرا} [الطلاق: 5]: {يدخله} أي عاجلا مجازا بما يتيح له من لذات العرفان ويفتح له من الأنس آجلا حقيقة {جنات} أي بساتين هي في غاية ما يكون من جمع جميع الأشجار وحسن الدار، وبين دوام ريها بقوله: {تجري} وبين انكشاف كثير من أرضها بقوله: {من تحتها} أي تحت غرفها {الأنهار} أو هو كناية عن أن أرضها في غاية الري بحيث إن ساكنها يجري في أي موضع أراد نهرا، وإلى زيادة عظمتها أشارت قراءة نافع وابن عامر بنون العظمة.
ولما أفرد الشرط والجزاء إجراء على لفظ (من) إشارة إلى أنه لا يشترط في الإيمان ولا في جزائه مشاركة أحد، وأنه لا توقف للقبول على شيء غير الوصف المذكور، جمع الحال بشارة بأن الداخلين كثير، وأن الداخل إلى دار الكرامة لا يحصل له هوان بعد ذلك أصلا فقال: {خالدين فيها} وأكد معنى الخلود ليفهم الدوام بلا انقضاء فقال: {أبدا} ولما أعلم أن الخلود لكل الداخلين إلى الجنة رجع إلى الأسلوب الأول تنصيصا على كل فرد إبلاغا في عظمة هذا الجزاء بقوله نتيجة لذلك، منبها على أن هذه النتيجة من حقها أن يتوقع قولها من كل من سمع هذه البشرى: {قد أحسن الله} أي الملك الأعلى ذو الجلال والإكرام {له} أي خاصة {رزقا} أي عظيما عجيبا، قال القشيري: الرزق الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها عن غير نقصان ولا يتعذب بتعطشه ولا يكون زيادة فيكون على خطر من مغاليط لا يخرج منها إلا بتأييد من الله سماوي. اهـ.